فصل: تفسير الآيات رقم (217- 218)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏204- 207‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ‏(‏204‏)‏ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ‏(‏205‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏206‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏207‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه طائفتي المسلمين بقوله‏:‏ ‏{‏فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ‏}‏ عقب ذلك بذكر طائفة المنافقين، وهم الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر‏.‏ وسبب النزول الأخنس بن شريق كما يأتي بيانه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ما ثبت قط أن الأخنس أسلم، وقيل إنها نزلت في قوم من المنافقين، وقيل‏:‏ إنها نزلت في كل من أضمر كفرّاً، أو نفاقاً، أو كذباً، وأظهر بلسانه خلافه‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏يُعْجِبُكَ‏}‏ واضح‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ‏}‏ أنه يحلف على ذلك فيقول‏:‏ يشهد الله على ما في قلبي من محبتك، أو من الإسلام، أو يقول‏:‏ الله يعلم أني أقول حقاً، وأني صادق في قولي لك‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ ‏"‏ وَيُشْهِدُ الله ‏"‏ بفتح حرف المضارعة، ورفع الإسم الشريف على أنه فاعل، والمعنى‏:‏ ويعلم الله منه خلاف ما قال، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏ وقراءة الجماعة أبلغ في الذمّ‏.‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ ‏{‏والله يشهد على ما في قلبه‏}‏ وقرأ أبيّ، وابن مسعود‏:‏ «ويستشهد الله على ما في قلبه»‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ متعلق بالقول، أو ب ‏{‏يعجبك‏}‏، فعلى الأوّل القول صادر في الحياة، وعلى الثاني الإعجاب صادر فيها‏.‏ والألدّ‏:‏ الشديد الخصومة‏.‏ يقال رجل ألدّ، وامرأة لداء، ولددته ألدّه‏:‏ إذا جادلته، فغلبته، ومنه قول الشاعر‏:‏

وألدّ ذي جَنَفٍ عليَّ كَأنَّما *** نَغْلِى عَداوةٌ صدره في مْرجَل

والخصام مصدر خاصم‏.‏ قاله الخليل، وقيل‏:‏ جمع خصم، قاله الزجاج ككلب، وكلاب، وصعب، وصعاب، وضخم، وضخام، والمعنى‏:‏ أنه أشدّ المخاصمين خصومة، لكثرة جداله، وقوّة مراجعته، وإضافة الألدّ إلى الخصام بمعنى‏:‏ في، أي‏:‏ ألدّ في الخصام، أو جعل الخصام ألدّ على المبالغة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تولى‏}‏ أي‏:‏ أدبر، وذهب عنك يا محمد‏.‏ وقيل‏:‏ إنه بمعنى ضلّ، وغضب، وقيل‏:‏ إنه بمعنى الولاية‏:‏ أي‏:‏ إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض‏.‏ والسعي المذكور يحتمل أن يكون المراد به‏:‏ السعي بالقدمين إلى ما هو فساد في الأرض، كقطع الطريق، وحرب المسلمين، ويحتمل أن يكون المراد به العمل في الفساد، وإن لم يكن فيه سعي بالقدمين، كالتدبير على المسلمين بما يضرّهم، وأعمال الحيل عليهم، وكل عمل يعمله الإنسان بجوارحه، أو حواسه يقال له سعي، وهذا هو الظاهر من هذه الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيُهْلِكَ‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏لِيُفْسِدَ‏}‏ وفي قراءة أبيّ‏:‏ «وليهلك»‏.‏ وقرأه قتادة بالرفع‏.‏ وروى عن ابن كثير‏:‏ ‏"‏ وَيُهْلِكَ ‏"‏ بفتح الياء وضم الكاف، ورفع الحرث، والنسل، وهي قراءة الحسن، وابن محيصن‏.‏ والمراد بالحرث‏:‏ الزرع والنسل‏:‏ الأولاد، وقيل الحرث‏:‏ النساء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وذلك، لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة، ووقوع القتال، وفيه هلاك الخلق، وقيل معناه‏:‏ أن الظالم يفسد في الأرض، فيمسك الله المطر، فيهلك الحرث، والنسل‏.‏

وأصل الحرث في اللغة‏:‏ الشق، ومنه المحراث لما يشق به الأرض، والحرث‏:‏ كسب المال، وجمعه‏.‏ وأصل النسل في اللغة‏:‏ الخروج، والسقوط، ومنه نسل الشعر، ومنه أيضاً‏:‏ ‏{‏إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 51‏]‏ ‏{‏وهم من كل حدب ينسلون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 96‏]‏، ويقال لما خرج من كل أنثى نسل، لخروجه منها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ الفساد‏}‏ يشمل كل نوع من أنواعه من غير فرق بين ما فيه فساد الدين، وما فيه فساد الدنيا‏.‏ والعزة‏:‏ القوّة والغلبة، من عَزَّه يعزّه‏:‏ إذا غلبه، ومنه‏:‏ ‏{‏وَعَزَّنِى فِى الخطاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 23‏]‏ وقيل‏:‏ العزة هنا‏:‏ الحمية، ومنه قول الشاعر‏:‏

أخذَته عزّة من جهْله *** فَتولىَّ مُغْضَباً فعل الضَّجِر

وقيل‏:‏ العزة هنا‏:‏ المنعة وشدّة النفس‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏أَخَذَتْهُ العزة بالإثم‏}‏ حملته العزة على الإثم، من قولك أخذته بكذا‏:‏ إذا حملته عليه، وألزمته إياه‏.‏ وقيل‏:‏ أخذته العزة بما يؤثمه، أي‏:‏ ارتكب الكفر للعزة، ومنه‏:‏ ‏{‏بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 2‏]‏ وقيل‏:‏ الباء في قوله‏:‏ ‏{‏بالإثم‏}‏ بمعنى اللام، أي‏:‏ أخذته العزّة، والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه، وهو‏:‏ النفاق، وقيل‏:‏ الباء بمعنى‏:‏ مع، أي‏:‏ أخذته العزّة مع الإثم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ‏}‏ أي‏:‏ كافية معاقبة، وجزاءً، كما تقول للرجل‏:‏ كفاك ما حلّ بك، وأنت تستعظم عليه ما حلّ به‏.‏ والمهاد جمع المهد، وهو الموضع المهيأ للنوم، ومنه مهد الصبي، وسميت جهنم مهاداً؛ لأنها مستقرّ الكفار‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ أنها بدل لهم من المهاد كقوله‏:‏ ‏{‏فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏ وقول الشاعر‏:‏

تحية بينهم ضرب وجيع *** ويشرى بمعنى يبيع، أي‏:‏ يبيع نفسه في مرضاة الله كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 20‏]‏ وأصله الاستبدال ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏، ومنه قول الشاعر‏:‏

وَشَرْيتُ برداً لَيْتَنِي *** مِنْ بعد بُرْدٍ كُنْتُ هَامَه

ومنه قول الآخر‏:‏

يُعْطي بها ثمناً فَيمنعُها *** وَيَقُولُ صاحبه ألا تَشْرِي

والمرضاة‏:‏ الرضا، تقول‏:‏ رضي يرضى، رضا ومرضاة‏.‏ ووجه ذكر الرأفة هنا أنه أوجب عليهم ما أوجبه ليجازيهم، ويثيبهم عليه، فكان ذلك رأفة بهم، ولطفاً لهم‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ لما أصيبت السرية التي فيها عاصم، ومرثد، قال رجال من المنافقين‏:‏ يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في أهلهم، ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الحياة الدنيا‏}‏ أي‏:‏ ما يظهر من الإسلام بلسانه‏:‏ ‏{‏وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ‏}‏ أنه مخالف لما يقوله بلسانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ أَلَدُّ الخصام‏}‏ أي‏:‏ ذو جدال إذا كلمك وراجعك‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تولى‏}‏ خرج من عندك‏:‏ ‏{‏سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد‏}‏ أي‏:‏ لا يحبّ عمله، ولا يرضى به‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ‏}‏ الذين يشرون أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله، والقيام بحقه، حتى هلكوا على ذلك‏.‏

يعني‏:‏ هذه السرية‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قوله‏}‏ الآية، قال‏:‏ نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقال جئت أريد الإسلام، ويعلم الله أني لصادق، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ‏}‏‏.‏ ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فمرّ بزرع لقوم من المسلمين، وحمر، فأحرق الزرع، وعقر الحمر، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تولى سعى فِى الأرض‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ أَلَدُّ الخصام‏}‏ قال هو‏:‏ شديد الخصومة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تولى سعى فِى الأرض‏}‏ قال عمل في الأرض‏:‏ ‏{‏وَيُهْلِكَ الحرث‏}‏ قال‏:‏ نبات الأرض‏:‏ ‏{‏والنسل‏}‏ نسل كل شيء من الحيوان الناس، والدواب‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد أيضاً أنه سئل، عن قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تولى سعى فِى الأرض‏}‏ قال‏:‏ يلي في الأرض، فيعمل فيها بالعدوان، والظلم، فيحبس الله بذلك القطر من السماء، فتهلك بحبس القطر الحرث، والنسل، ‏{‏والله لا يحبّ الفساد‏}‏‏.‏ ثم قرأ مجاهد‏:‏ ‏{‏ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس‏}‏ الآية ‏[‏الروم‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس أنه سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏وَيُهْلِكَ الحرث والنسل‏}‏ قال‏:‏ الحرث‏:‏ الزرع، والنسل‏:‏ نسل كل دابة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، والطبراني والبيهقي في الشعب، عن ابن مسعود؛ قال‏:‏ «إن من أكبر الذنوب عند الله أن يقول الرجل لأخيه‏:‏ اتق الله، فيقول عليك بنفسك أنت تأمرني»‏.‏ وأخرج ابن المنذر، والبيهقي في الشعب، عن سفيان قال‏:‏ قال رجل لمالك بن مغْوَل‏:‏ اتق الله، فسقط، فوضع خدّه على الأرض تواضعاً لله‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَبِئْسَ المهاد‏}‏ قال‏:‏ بئس المنزل‏.‏ وأخرجا عن مجاهد قال‏:‏ بئس ما شهدوا لأنفسهم‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن صهيب قال‏:‏ لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش‏:‏ يا صهيب قدمت إلينا، ولا مال لك، وتخرج أنت، ومالك، والله لا يكون ذلك أبداً، فقلت لهم‏:‏ أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ ربح البيع صهيب مرتين ‏"‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر، عن سعيد بن المسيب، نحوه‏.‏ وأخرج الطبراني، والحاكم، والبيهقي في الدلائل، عن صهيب، نحوه‏.‏ وأخرج ابن المنذر، والحاكم وصححه، عن أنس قال‏:‏ نزلت في خروج صهيب إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن قتادة قال‏:‏ هم المهاجرون والأنصار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏208- 210‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏208‏)‏ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏209‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏210‏)‏‏}‏

لما ذكر الله سبحانه أن الناس ينقسمون إلى ثلاث طوائف‏:‏ مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، أمرهم بعد ذلك بالكون على ملة واحدة‏.‏ وإنما أطلق على الثلاث الطوائف لفظ الإيمان؛ لأن أهل الكتاب مؤمنون بنبيهم، وكتابهم، والمنافق مؤمن بلسانه، وإن كان غير مؤمن بقلبه‏.‏ و‏{‏السلم‏}‏ بفتح السين وكسرها قال الكسائي‏:‏ ومعناهما واحد، وكذا عند البصريين، وهما جميعاً يقعان للإسلام، والمسالمة‏.‏ وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ إنه بالفتح للمسالمة، وبالكسر للإسلام‏.‏ وأنكر المبرد هذه التفرقة‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ ‏{‏السلم‏}‏ بفتح السين‏:‏ الصلح، وتكسر، ويذكر ويؤنث، وأصله من الاستسلام، والانقياد‏.‏ ورجح الطبري أنه هنا بمعنى الإسلام، ومنه قول الشاعر الكندي‏:‏

دَعَوْتُ عَشِيرَتِي للِسِّلم لَمّا *** رَأيْتُهمُ تَوَلَّوا مُدْبِرين

أي‏:‏ إلى الإسلام‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ «السَّلمَ» بفتح السين، واللام‏.‏ وقد حكى البصريون في سَلْم، وسِلْم، وسلم أنها بمعنى واحد‏:‏ ‏{‏وكافة‏}‏ حال من ‏{‏السلم‏}‏، أو من ضمير المؤمنين، فمعناه على الأوّل‏:‏ لا يخرج منكم أحد، وعلى الثاني‏:‏ لا يخرج من أنواع السلم شيء بل ادخلوا فيها جميعاً‏.‏ أي‏:‏ في خصال الإسلام، وهو مشتق من قولهم كففت أي‏:‏ منعت، أي‏:‏ لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام، والكفّ‏:‏ المنع، والمراد به هنا‏:‏ الجميع ‏{‏ادخلوا فِي السلم كَافَّةً‏}‏ أي‏:‏ جميعاً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏ أي‏:‏ لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم إليه الشيطان، وقد تقدّم الكلام على خطوات‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏زَلَلْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ تنحيتم عن طريق الاستقامة، وأصل الزلل في القدم، ثم استعمل في الاعتقادات، والآراء، وغير ذلك، يقال زلّ يَزِلُّ زلاً، وزللاً، وزلولاً‏:‏ أي‏:‏ دحضت قدمه‏.‏ وقرئ‏:‏ ‏"‏ زَلِلْتُمْ ‏"‏ بكسر اللام، وهما لغتان، والمعنى‏:‏ فإن ضللتم، وعرّجتم عن الحق‏:‏ ‏{‏مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات‏}‏ أي‏:‏ الحجج الواضحة، والبراهين الصحيحة، أن الدخول في الإسلام هو الحق ‏{‏فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ غالب لا يعجزه الانتقام منكم ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ لا ينتقم إلا بحق‏.‏ قوله ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ينتظرون، يقال نظرته وانتظرته بمعنى، والمراد هل ينتظر التاركون للدخول في السلم، والظُّللَ جمع ظُلَّة، وهي ما يظلك، وقرأ قتادة، ويزيد بن القعقاع‏:‏ «في ظلال» وقرأ يزيد أيضاً ‏"‏ والملئكة ‏"‏ بالجرّ عطفاً على الغمام، أو على ظلل‏.‏ قال الأخفش‏:‏ ‏{‏والملئكة‏}‏ الخفض بمعنى‏:‏ وفي الملائكة؛ قال‏:‏ والرفع أجود‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ التقدير في ظلل من الغمام، ومن الملائكة، والمعنى‏:‏ هل ينتظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل من الغمام، والملائكة‏.‏ قال الأخفش‏:‏ وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعاً إلى الجزاء، فسمي الجزاء إتياناً كما سمي التخويف، والتعذيب في قصة ثمود إتياناً، فقال ‏{‏فَأَتَى الله بنيانهم مّنَ القواعد‏}‏

‏[‏النحل‏:‏ 26‏]‏ وقال في قصة النضير ‏{‏فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏ وإنما احتمل الإتيان هذا؛ لأن أصله عند أهل اللغة القصد إلى الشيء، فمعنى الآية‏:‏ هل ينظرون إلا أن يظهر الله فعلاً من الأفعال مع خلق من خلقه يقصد إلى محاربتهم‏؟‏ وقيل إن المعنى‏:‏ يأتيهم أمر الله، وحكمه، وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏فِي ظُلَلٍ‏}‏ بمعنى يظلل، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ يأتيهم ببأسه في ظلل‏.‏ والغمام‏:‏ السحاب الرقيق الأبيض، سمي بذلك؛ لأنه يغم‏.‏ أي‏:‏ يستر‏.‏ ووجه إتيان العذاب في الغمام على تقدير أن ذلك هو المراد ما في مجيء الخوف من محل الأمن من الفظاعة، وعظم الموقع؛ لأن الغمام مظنة الرحمة لا مظنة العذاب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَقُضِىَ الأمر‏}‏ عطف على ‏{‏يأتيهم‏}‏ داخل في حيز الانتظار، وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه؛ فكأنه قد كان، أو جملة مستأنفة جيء بها للدلالة على أن مضمونها واقع لا محالة، أي‏:‏ وفرغ من الأمر الذي هو إهلاكهم‏.‏ وقرأ معاذ بن جبل‏:‏ «وقضاءَ الأمر» بالمصدر عطفاً على الملائكة‏.‏ وقرأ يحيى بن يَعْمُر‏:‏ «وقضى الأمور» بالجمع‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي‏:‏ ‏{‏تُرْجَعُ الأمور‏}‏ على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الباقون على البناء للمفعول‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَافَّةً‏}‏ قال‏:‏ يعني مؤمني أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمر التوراة، والشرائع التي أنزلت فيهم، يقول‏:‏ ادخلوا في شرائع دين محمد، ولا تَدَعُوا منها شيئاً، وحسبكم الإيمان بالتوراة، وما فيها‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن عكرمة‏:‏ أن هذه الآية نزلت في ثعلبة، وعبد الله بن سلام، وابن يامين، وأسد، وأسيد ابني كعب، وسعيد بن عمرو وقيس بن زيد، كلهم من يهود قالوا‏:‏ يا رسول الله يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنُسْبِت فيه، وإن التوراة كتاب الله، فلنقم بها الليل، فنزلت‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَافَّةً‏}‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏السلم‏}‏ الطاعة لله، و‏{‏كافة‏}‏ يقول‏:‏ جميعاً‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ السلم‏:‏ الإسلام، والزلل‏:‏ ترك الإسلام‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السدي قال‏:‏ ‏{‏فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات‏}‏ قال‏:‏ فإن ظللتم من بعد ما جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يجمع الله الأوّلين، والآخرين لميقات يوم معلوم قياماً شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي ‏"‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، عن ابن عمر في هذه الآية قال‏:‏ يهبط حين يهبط، وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب، منها النور، والظلمة، والماء، فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتاً تنخلع له القلوب‏.‏

وأخرج أبو يعلى، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في هذه الآية قال‏:‏ يأتي الله يوم القيامة في ظلل من السحاب قد قُطِّعَت طاقات‏.‏ وأخرج ابن جرير، والديلمي عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفات بالملائكة» وذلك قوله‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عكرمة‏:‏ ‏{‏فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام‏}‏ قال‏:‏ طاقات، والملائكة حوله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية قال‏:‏ يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وتأتيهم الملائكة عند الموت‏.‏ وأخرج عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏وَقُضِىَ الأمر‏}‏ يقول‏:‏ قامت الساعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏211- 213‏]‏

‏{‏سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏211‏)‏ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏212‏)‏ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏213‏)‏‏}‏

المأمور بالسؤال لبني إسرائيل هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون هو كل فرد من السائلين، وهو سؤال تقريع وتوبيخ‏.‏ و‏{‏كَمْ‏}‏ في محل نصب بالفعل المذكور بعدها على أنها مفعول بآتي، ويجوز أن ينتصب بفعل مقدّر دلّ عليه المذكور‏.‏ أي‏:‏ كم آتينا آتيناهم، وقُدِّر متأخراً؛ لأن لها صدر الكلام، وهي إما استفهامية للتقرير، أو خبرية للتكثير‏.‏ و‏{‏مّنْ ءَايَةٍ‏}‏ في موضع نصب على التمييز، وهي البراهين التي جاء بها أنبياؤهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بذلك الآيات التي جاء بها موسى، وهي التسع‏.‏ والمراد بالنعمة هنا‏:‏ ما جاءهم من الآيات‏.‏ وقال ابن جرير الطبري‏:‏ النعمة هنا الإسلام، والظاهر دخول كل نعمة أنعم الله بها على عبد من عباده كائناً من كان، فوقع منه التبديل لها، وعدم القيام بشكرها، ولا ينافي ذلك كون السياق في بني إسرائيل، أو كونهم السبب في النزول لما تقرر من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ من الترهيب، والتخويف ما لا يقادر قدره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏زُيّنَ‏}‏ مبني للمجهول، والمُزَيِّن‏:‏ هو الشيطان، أو الأنفس المجبولة على حبّ العاجلة‏.‏ والمراد بالذين كفروا‏:‏ رؤساء قريش، أو كل كافر‏.‏ وقرأ مجاهد، وحميد بن قيس‏:‏ «زين» على البناء للمعلوم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهي قراءة شاذة؛ لأنه لم يتقدّم للفاعل ذكر‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ «زينت» وإنما خص الذين كفروا بالذكر مع كون الدنيا مزينة للمسلم، والكافر كما وصف سبحانه بأنه جعل ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملاً؛ لأن الكافر افتتن بهذا التزيين، وأعرض عن الآخرة، والمسلم لم يفتتن به؛ بل أقبل على الآخرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ هذه الجملة في محل نصب على الحال‏.‏ أي‏:‏ والحال أن أولئك الكفار يسخرون من الذين آمنوا لكونهم فقراء لا حظّ لهم من الدنيا كحظ رؤساء الكفر، وأساطين الضلال، وذلك‏:‏ لأن عرض الدنيا عندهم هو الأمر الذي يكون من ناله سعيداً رابحاً، ومن حُرِمَه شقياً خاسراً‏.‏ وقد كان غالب المؤمنين إذ ذاك فقراء لاشتغالهم بالعبادة، وأمر الآخرة، وعدم التفاتهم إلى الدنيا وزينتها‏.‏ وحكى الأخفش أنه يقال‏:‏ سخرت منه، وسخرت به، وضحكت منه، وضحكت به، وهزأت منه، وهزأت به، والاسم السخرية، والسّخْري‏.‏

ولما وقع من الكفار ما وقع من السخرية بالمؤمنين ردّ الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ والمراد بالفوقية هنا‏:‏ العلوّ في الدرجة؛ لأنهم في الجنة، والكفار في النار، ويحتمل أن يراد بالفوق‏:‏ المكان؛ لأن الجنة في السماء، والنار في أسفل سافلين، أو أن المؤمنين هم الغالبون في الدنيا كما وقع ذلك من ظهور الإسلام، وسقوط الكفر، وقتل أهله، وأسرهم، وتشريدهم، وضرب الجزية عليهم، ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك لولا التقييد بكونه في يوم القيامة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ يحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الله سبحانه سيرزق المستضعفين من المؤمنين، ويوسع عليهم، ويجعل ما يعطيهم من الرزق بغير حساب، أي‏:‏ بغير تقدير، ويحتمل أن المعنى‏:‏ أن الله يوسع على بعض عباده في الرزق، كما وسع على أولئك الرؤساء من الكفار استدراجاً لهم، وليس في التوسعة دليل على أن من وسع عليه، فقد رضي عنه، ويحتمل أن يراد بغير حساب من المرزوقين كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏كَانَ الناس أُمَّةً واحدة‏}‏ أي‏:‏ كانوا على دين واحد فاختلفوا‏:‏ ‏{‏فَبَعَثَ الله النبيين‏}‏ واختلف في الناس المذكورين في هذه الآية من هم‏؟‏ فقيل هم بنو آدم‏.‏ حين أخرجهم الله نسماً من ظهر آدم وقيل‏:‏ آدم وحده، وسمي ناساً؛ لأنه أصل النسل، وقيل‏:‏ آدم وحواء‏.‏ وقيل‏:‏ القرون الأولى التي كانت بين آدم ونوح‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ نوح ومَنْ في سفينته، وقيل‏:‏ معنى‏:‏ الآية كان الناس أمة واحدة كلهم كفار فبعث الله النبيين؛ وقيل المراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم كانوا أمة واحدة في خلوّهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق، لولا أن الله مَنَّ عليهم بإرسال الرسل، والأمة مأخوذة من قولهم أممت الشيء‏:‏ أي‏:‏ قصدته، أي‏:‏ مقصدهم واحد غير مختلف‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَبَعَثَ الله النبيين‏}‏ قيل‏:‏ جملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏}‏ بالنصب على الحال‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب‏}‏ أي الجنس‏.‏ وقال ابن جرير الطبري‏:‏ إن الألف واللام للعهد والمراد التوراة‏.‏ وقوله ‏{‏لِيَحْكُمَ‏}‏ مسند إلى الكتاب في قول الجمهور، وهو‏:‏ مجاز مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 29‏]‏ وقيل‏:‏ إن المعنى ليحكم كل نبيّ بكتابه، وقيل‏:‏ ليحكم الله، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فِيهِ‏}‏ الأولى راجع إلى «ما» في قوله‏:‏ ‏{‏فِيمَا اختلفوا فِيهِ‏}‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا اختلف فِيهِ‏}‏ يحتمل أن يعود إلى الكتاب، ويحتمل أن يعود إلى المُنَزَّل عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج؛ ويحتمل أن يعود إلى الحق، وقوله ‏{‏إِلاَّ الذين أُوتُوهُ‏}‏ أي‏:‏ أوتوا الكتاب، أو أوتوا الحق، أو أوتوا النبيّ‏:‏ أي‏:‏ أعطوا علمه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بَغْياً بَيْنَهُمْ‏}‏ منتصب على أنه مفعول به، أي لم يختلفوا إلا للبغي‏:‏ أي الحسد والحرص على الدنيا، وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم، والقبح الذي وقعوا فيه؛ لأنهم جعلوا نزول الكتاب سبباً في شدّة الخلاف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بإذنه‏}‏ أي‏:‏ فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحق، وذلك بما بينه لهم في القرآن من اختلاف من كان قبلهم‏.‏

وقيل‏:‏ معناه‏:‏ فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للتصديق، بجميع الكتب بخلاف مَنْ قبلهم، فإن بعضهم كذَّب كتاب بعض؛ وقيل‏:‏ إن الله هداهم إلى الحق من القبلة‏.‏ وقيل‏:‏ هداهم ليوم الجمعة‏.‏ وقيل‏:‏ هداهم لاعتقاد الحق في عيسى بعد أن كذّبته اليهود، وجعلته النصارى رباً، وقيل‏:‏ المراد بالحق‏:‏ الإسلام‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إن في الآية قلباً، وتقديره‏:‏ فهدى الله الذين آمنوا بالحق لما اختلفوا فيه، واختاره ابن جرير، وضعَّفه ابن عطية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معناه بعلمه‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا غلط، والمعنى بأمره‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏سَلْ بَنِى إسراءيل‏}‏ قال‏:‏ هم اليهود ‏{‏كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ‏}‏ ما ذكر الله في القرآن، وما لم يذكر‏:‏ ‏{‏وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله‏}‏ قال‏:‏ يكفرها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال‏:‏ آتاهم الله آيات بينات‏:‏ عصى موسى، ويده، وأقطعهم البحر، وأغرق عدوّهم، وهم ينظرون، وظلل من الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى‏.‏ ‏{‏وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله‏}‏ يقول من يكفر بنعمة الله‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا‏}‏ قال‏:‏ الكفار يبتغون الدنيا، ويطلبونها ‏{‏وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ في طلبهم الآخرة‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ لا أحسبه إلا عن عكرمة‏.‏ قال‏:‏ قالوا‏:‏ لو كان محمد نبياً لاتبعه ساداتنا، وأشرافنا، والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود، وأصحابه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ يقولون‏:‏ ما هؤلاء على شيء، استهزاءً، وسخرياً ‏{‏والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ هنا كم التفاضل‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، عن قتادة قال‏:‏ فوقهم في الجنة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء قال‏:‏ سألت ابن عباس، عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ قال‏:‏ تفسيرها ليس على الله رقيب، ولا من يحاسبه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ لا يحاسب الربّ‏.‏

وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو يعلى، والطبراني بسند صحيح، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏كان الناس أمة واحدة‏}‏ قال‏:‏ على الإسلام كلهم‏.‏ وأخرج البزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عنه قال‏:‏ كان بين آدم، ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين‏.‏ قال‏:‏ وكذلك في قراءة عبد الله «كَانَ الناس أُمَّةً واحدة * فاختلفوا»‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبَي حاتم، عن أبيّ بن كعب؛ قال‏:‏ كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم، ففطرهم الله على الإسلام، وأقرّوا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين، ثم اختلفوا من بعد آدم‏.‏

وأخرج وكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد‏:‏ كان الناس أمة واحدة قال‏:‏ آدم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبيّ أنه كان يقرؤها‏:‏ «كَانَ الناس أُمَّةً واحدة فاختلفوا فَبَعَثَ الله النبيين» وإن الله إنما بعث الرسل، وأنزل الكتب بعد الاختلاف، ‏{‏وما اختلف الذين أوتوه‏}‏ يعني بني إسرائيل أوتوا الكتاب، والعلم ‏{‏بغياً بينهم‏}‏ يقول‏:‏ بغياً على الدنيا، وطلب ملكها، وزخرفها أيهم يكون له الملك، والمهابة في الناس‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏كَانَ الناس أُمَّةً واحدة‏}‏ قال‏:‏ كفاراً‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة في قوله‏:‏ ‏{‏فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ‏}‏ قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، وأوّل الناس دخولاً يبدأ بهم، أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، فغداً لليهود، وبعد غد للنصارى» وهو في الصحيح بدون ذكر الآية‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم في قوله‏:‏ ‏{‏فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بإذنه‏}‏ قال‏:‏ اختلفوا في يوم الجمعة، فأخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة، واختلفوا في القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، وهدى أمة محمد للقبلة، واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع، ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم النهار، ومنهم من يصوم من بعد الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في إبراهيم، فقالت‏:‏ اليهود كان يهودياً، وقالت النصارى كان نصرانياً، وجعله الله حنيفاً مسلماً، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى، فكذبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً، وجعلته النصارى إلهاً وولداً، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏214‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ‏(‏214‏)‏‏}‏

‏{‏أم‏}‏ هنا‏:‏ منقطعة بمعنى‏:‏ بل‏.‏ وحكى بعض اللغويين أنها قد تجيء بمثابة همزة الاستفهام يبتدأ بها الكلام، فعلى هذا معنى الاستفهام هنا‏:‏ التقرير، والإنكار، أي‏:‏ أحسبتم دخولكم الجنة واقعاً، ولم تُمْتَحنوا بمثل ما امتِحَن به مَنْ كان قبلكم، فتصبروا كما صبروا‏؟‏ ذكر الله سبحانه هذه التسلية بعد أن ذكر اختلاف الأمم على أنبيائهم، تثبيتاً للمؤمنين وتقوية لقلوبهم، ومثل هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 142‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الم أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 1- 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَسَّتْهُمْ‏}‏ بيان لقوله‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ‏}‏، و‏{‏البأساء والضراء‏}‏ قد تقدّم تفسيرهما، والزلزلة‏:‏ شدّة التحريك يكون في الأشخاص وفي الأحوال، يقال‏:‏ زلزل الله الأرض زَلزلة، وزلزالاً بالكسر، فتزلزلت إذا تحركت، واضطربت، فمعنى زُلزلوا‏:‏ خُوِّفوا وأزعجوا إزعاجاً شديداً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أصل الزلزلة‏:‏ نقل الشيء من مكانه، فإذا قلت‏:‏ زلزلته فمعناه كررت زلله من مكانه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حتى يَقُولَ‏}‏ أي‏:‏ استمرّ ذلك إلى غاية هي‏:‏ قول الرسول، ومن معه ‏{‏متى نَصْرُ الله‏}‏ والرسول هنا قيل‏:‏ هو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ هو شعياء‏.‏ وقيل هو كل رسول بعث إلى أمته‏.‏ وقرأ مجاهد، والأعرج، ونافع، وابن محيصن بالرفع في قوله‏:‏ ‏{‏حتى يَقُولَ‏}‏ وقرأ غيرهم بالنصب، فالرفع‏:‏ على أنه حكاية لحال ماضية، والنصب بإضمار «أن» على أنه غاية لما قبله‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ ‏{‏وَزُلْزِلُواْ وَيَقُولُ الرسول‏}‏ بالواو بدل حتى، ومعنى ذلك‏:‏ أن الرسول ومن معه بلغ بهم الضجر إلى أن قالوا هذه المقالة المقتضية لطلب النصر، واستبطاء حصوله، واستطالة تأخره، فبشرهم الله سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ‏}‏‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير‏:‏ حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله‏؟‏ ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ألا إن نصر الله قريب‏.‏ ولا مُلْجئ لهذا التكلف، لأن قول الرسول، ومن معه‏:‏ ‏{‏متى نَصْرُ الله‏}‏ ليس فيه إلا استعجال النصر من الله سبحانه، وليس فيه ما زعموه من الشكّ، والارتياب حتى يحتاج إلى ذلك التأويل المتعسّف‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة، أن هذه الآية نزلت في يوم الأحزاب، أصاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، وأصحابه بلاء، وحصر‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه، وصفوته لتطيب نفوسهم، فقال ‏{‏مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء‏}‏ فالبأساء‏:‏ الفتن، والضرّاء‏:‏ السقم، وزلزلوا بالفتن، وأذى الناس إياهم‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ‏}‏ قال‏:‏ أصابهم هذا يوم الأحزاب حتى قال قائلهم‏:‏ ‏{‏مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12‏]‏ ولعله يعني بقوله‏:‏ حتى قال قائلهم‏:‏ يعني‏:‏ قائل المنافقين كما يفيد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا * هُنَالِكَ ابتلى المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10- 12‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏215- 216‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏215‏)‏ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏216‏)‏‏}‏

السائلون هنا‏:‏ هم المؤمنون سألوا عن الشيء الذي ينفقونه ما هو‏؟‏ فأجيبوا ببيان المَصْرِف الذي يصرفون فيه، تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد؛ لأن الشيء لا يعتدّ به إلا إذا وضع في موضعه، وصادف مصرفه‏.‏ وقيل‏:‏ إنه قد تضمن قوله‏:‏ ‏{‏مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ‏}‏ بيان ما ينفقونه، وهو كل خير‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم إنما سألوا عن وجوه البرّ التي ينفقون فيها، وهو خلاف الظاهر‏.‏ وقد تقدم الكلام في الأقربين، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كُتِبَ‏}‏ أي‏:‏ فرض، وقد تقدّم بيان معناه‏.‏ بين سبحانه أن هذا؛ أي‏:‏ فرض القتال عليهم من جملة ما امتحنوا به‏.‏ والمراد بالقتال‏:‏ قتال الكفار‏.‏ والكُرْه بالضم‏:‏ المشقة، وبالفتح‏:‏ ما أكرهت عليه، ويجوز الضم في معنى الفتح، فيكونان لغتين، يقال‏:‏ كرهت الشيء كَرْهاً وكُرْهاً، وكَراهة وكراهية، وأكرهته عليه إكراهاً، وإنما كان الجهاد كرهاً؛ لأن فيه إخراج المال، ومفارقة الأهل، والوطن، والتعرّض لذهاب النفس، وفي التعبير بالمصدر، وهو قوله‏:‏ ‏{‏كُرْهٌ‏}‏ مبالغة، ويحتمل أن يكون بمعنى المكروه كما في قولهم‏:‏ الدرهم ضرب الأمير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا‏}‏ قيل‏:‏ عسى هنا بمعنى قد، وروي ذلك عن الأصم‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ عسى من الله إيجاب، والمعنى‏:‏ عسى أن تكرهوا الجهاد لما فيه من المشقة، وهو خير لكم، فربما تغلبون، وتَظْفَرون، وتَغْنَمون، وتُؤْجَرون، ومن مات مات شهيداً، وعسى أن تحبوا الدَّعَة، وترك القتال، وهو شرُّ لكم، فربما يتقوّى عليكم العدوّ، فيغلبكم، ويقصدكم إلى عقر دياركم، فيحلّ بكم أشدّ مما تخافونه من الجهاد الذي كرهتم مع ما يفوتكم في ذلك من الفوائد العاجلة، والآجلة ‏{‏والله يَعْلَمُ‏}‏ ما فيه صلاحكم، وفلاحكم ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ‏}‏ قال‏:‏ يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة، وهي‏:‏ النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها، فنسختها الزكاة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريح قال‏:‏ سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ‏}‏ الآية، فذلك النفقة في التطوّع، والزكاة سواء ذلك كله‏.‏ وأخرج ابن المنذر، أن عمرو بن الجَمُوح سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ماذا ننفق من أموالنا، وأين نضعها‏؟‏ فنزلت‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال‏}‏ قال‏:‏ إن الله أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين بمكة بالتوحيد، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن يكفوا أيديهم، عن القتال، فلما هاجر إلى المدينة نزلت سائر الفرائض، وأذن لهم في القتال، فنزلت‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال‏}‏ يعني فرض عليكم، وأذن لهم بعد ما نهاهم عنه ‏{‏وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ القتال، وهو مشقة عليكم ‏{‏وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا‏}‏ يعني‏:‏ الجهاد‏:‏ قتال المشركين، وهو خير لكم، ويجعل الله عاقبته، فتحاً، وغنيمة، وشهادة ‏{‏وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا‏}‏ يعني‏:‏ القعود عن الجهاد ‏{‏وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ‏}‏ فيجعل الله عاقبته شرّاً، فلا تصيبوا ظفراً، ولا غنيمة‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج قال‏:‏ قلت‏:‏ لعطاء‏:‏ ما تقول في قوله‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال‏}‏ أوجب الغزو على الناس من أجلها‏؟‏ قال لا، كتب على أولئك حينئذ‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن شهاب في الآية قال‏:‏ الجهاد مكتوب على كل أحد غزا أو قعد، فالقاعد إن استُعين به أعان، وإن استغيث به أغاث، وإن استُنفر نَفَر، وإن استُغِنى عنه قعد، وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ‏}‏ قال‏:‏ نسختها هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏ وأخرجه ابن جرير موصولاً، عن عكرمة، عن ابن عباس‏.‏ وأخرج ابن المنذر، والبيهقي في سننه، من طريق عليّ قال‏:‏ عسى من الله واجب‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن السدي نحوه أيضاً، وقد ورد في فضل الجهاد، ووجوبه أحاديث كثيرة لا يتسع المقام لبسطها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏217- 218‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏217‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏218‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏قِتَالٍ فِيهِ‏}‏ هو بدل اشتمال، قاله سيبويه‏.‏ ووجهه أن السؤال عن الشهر لم يكن إلا باعتبار ما وقع فيه من القتال‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى يسئلونك عن القتال في الشهر الحرام، وأنشد سيبويه قول الشاعر‏:‏

فَمَا كَانَ قيسُ هُلْكُه هُلْكَ وَاحدٍ *** وَلكنَّه بُنْيَانُ قَومٍ تَهدَّمَاً

فقوله‏:‏ هلكه بدل اشتمال من قيس، وقال الفراء‏:‏ هو مخفوض يعني‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏قِتَالٍ فِيهِ‏}‏ على نية عن، وقال أبو عبيدة‏:‏ هو‏:‏ مخفوض على الجوار‏.‏ قال النحاس‏:‏ لا يجوز أن يعرب الشيء على الجوار في كتاب الله، ولا في شيء من الكلام، وإنما وقع في شيء شاذّ، وهو قولهم‏:‏ هذا جحر ضب خرب‏.‏ وتابع النحاس ابن عطية في تخطئة أبي عبيدة‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا يجوز إضمار عن، والقول فيه أنه بدل‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وعكرمة‏:‏ «يسألونك عن الشهر الحرام، وعن قتال فيه»‏.‏ وقرأ الأعرج‏:‏ «قتال فيه» بالرفع‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهو غامض في العربية، والمعنى‏:‏ يسألونك عن الشهر الحرام أجائز قتال فيه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ‏}‏ مبتدأ وخبر، أي‏:‏ القتال فيه أمر كبير مستنكر، والشهر الحرام‏:‏ المراد به‏:‏ الجنس، وقد كانت العرب لا تسفك فيه دماً، ولا تُغِير على عدوّ، والأشهر الحرم هي‏:‏ ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، ثلاثة سرد وواحد فرد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ مبتدأ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَكُفْرٌ بِهِ‏}‏ معطوف على صدّ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَكْبَرُ عِندَ الله‏}‏ خبر صدّ، وما عطف عليه‏:‏ أي‏:‏ الصدّ عن سبيل الله، والكفر به، والصدّ عن المسجد الحرام، وإخراج أهل الحرم منه‏:‏ ‏{‏أَكْبَرُ عِندَ الله‏}‏ أي‏:‏ أعظم إثماً، وأشدّ ذنباً من القتال في الشهر الحرام، كذا قال المبرد، وغيره، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَكُفْرٌ بِهِ‏}‏ يعود إلى الله‏.‏ وقيل‏:‏ يعود إلى الحج‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏وَصُدَّ‏}‏ عطف على كبير، والمسجد عطف على الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَكُفْرٌ بِهِ‏}‏ فيكون الكلام منتسقاً متصلاً غير منفصل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذلك خطأ؛ لأن المعنى يسوق إلى أن قوله‏:‏ ‏{‏وَكُفْرٌ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ بالله عطف أيضاً على كبير، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر بالله، وهذا بيّن فساده، ومعنى الآية على القول الأوّل الذي ذهب إليه الجمهور‏:‏ أنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصدّ عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، ومن الكفر بالله، ومن الصدّ عن المسجد الحرام، ومن إخراج أهل الحرم منه أكبر جرماً عند الله‏.‏ والسبب يشهد لهذا المعنى، ويفيد أنه المراد كما سيأتي بيانه، فإن السؤال منهم المذكور في هذه الآية هو سؤال إنكار لما وقع من السرية التي بعثها النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمراد بالفتنة هنا‏:‏ الكفر، أي‏:‏ كفركم أكبر من القتل الواقع من السرية التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقيل المراد بالفتنة‏:‏ الإخراج لأهل الحرم منه، وقيل المراد بالفتنة هنا‏:‏ فتنتهم عن دينهم حتى يهلكوا‏.‏ أي‏:‏ فتنة المستضعفين من المؤمنين، أو نفس الفتنة التي الكفار عليها‏.‏ وهذا أرجح من الوجهين الأوّلين، لأن الكفر، والإخراج قد سبق ذكرهما، وأنهما مع الصدّ أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ‏}‏ ابتداء كلام يتضمن الإخبار من الله عزّ وجل للمؤمنين بأن هؤلاء الكفار لا يزالون مستمرين على قتالكم، وعداوتكم حتى يردوكم عن الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك، وتهيأ لهم منكم، والتقيد بهذا الشرط مشعر باستبعاد تمكنهم من ذلك، وقدرتهم عليه، ثم حذّر الله سبحانه المؤمنين من الاغترار بالكفار، والدخول فيما يريدونه من ردّهم عن دينهم الذي هو الغاية لما يريدونه من المقاتلة للمؤمنين، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم‏}‏ إلى آخر الآية والردة‏:‏ الرجوع عن الإسلام إلى الكفر، والتقييد بقوله‏:‏ ‏{‏فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ‏}‏ يفيد أن عمل من ارتد إنما يبطل إذا مات على الكفر‏.‏ وحبط‏:‏ معناه بطل، وفسد، ومنه الحبط، وهو‏:‏ فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها للكلأ، فتنتفخ أجوافها، وربما تموت من ذلك‏.‏ وفي هذه الآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏فِى الدنيا والاخرة‏}‏ أنه لا يبقى له حكم المسلمين في الدنيا، فلا يأخذ شيئاً مما يستحقه المسلمون، ولا يظفر بحظ من حظوظ الإسلام، ولا ينال شيئاً من ثواب الآخرة الذي يوجبه الإسلام، ويستحقه أهله‏.‏ وقد اختلف أهل العلم في الردّة هل تحبط العمل بمجردها أم لا تحبط إلا بالموت على الكفر‏؟‏ والواجب حمل ما أطلقته الآيات في غير هذا الموضع على ما في هذه الآية من التقييد‏.‏ وقد تقدم الكلام في معنى الخلود‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَهَاجَرُواْ‏}‏ الهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع، وترك الأوّل لإيثار الثاني، والهجر ضدّ الوصل، والتهاجر‏:‏ التقاطع، والمراد بها هنا‏:‏ الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام‏.‏ والمجاهدة‏:‏ استخراج الجهد، جهد، مجاهدة، وجهاداً، والجهاد والتجاهد‏:‏ بذل الوسع‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَرْجُونَ‏}‏ معناه‏:‏ يطمعون، وإنما قال‏:‏ يرجون بعد تلك الأوصاف المادحة التي وصفهم بها، لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة، ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ‏.‏ والرجاء الأمل، يقال‏:‏ رجوت فلاناً أرجو رجاء، ورجاوة‏.‏ وقد يكون الرجاء بمعنى الخوف كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 13‏]‏ أي‏:‏ لا تخافون عظمة الله‏.‏

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، والبيهقي في سننه بسند صحيح، عن جُنْدُب بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث رهطاً، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح، أو عبيدة بن الحارث، فلما ذهب ينطلق بكى شوقاً، وصبابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس، فبعث مكانه عبد الله بن جحش، وكتب له كتاباً، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا، وكذا، وقال‏:‏ لا تكرهنّ أحداً من أصحابك على المسير معك، فلما قرأ الكتاب استرجع وقال‏:‏ سمعاً، وطاعة لله، ولرسوله، فخبرهم الخبر، وقرأ عليهم الكتاب فرجع رجلان، ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب، أو جمادى، فقال المشركون للمسلمين‏:‏ قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام‏}‏ الآية، فقال بعضهم‏:‏ إن لم يكونوا أصابوا وزراً، فليس لهم أجر، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَاجَرُواْ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

وأخرج البزار عن ابن عباس أن سبب نزول الآية هو ذلك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ إن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردّوه عن المسجد الحرام في شهر حرام، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل، فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال في شهر حرام‏.‏ فقال الله‏:‏ ‏{‏قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله‏}‏ من القتال فيه، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث سرية، فلقوا عمرو بن الحضرمي، وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى وأوّل ليلة من رجب، وإن أصحاب محمد كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى، وكانت أوّل رجب ولم يشعروا، فقتله رجل منهم، وأخذوا ما كان معه، وأن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك، فنزلت الآية‏.‏ وأخرج ابن إسحاق عنه‏:‏ أن سبب نزول الآية مصاب عمرو بن الحضرمي‏.‏ وقد ورد من طرق كثيرة في تعيين السبب مثل ما تقدّم‏.‏ وأخرج ابن أبي داود عن عطاء بن ميسرة قال‏:‏ أحلّ القتال في الشهر الحرام في براءة في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سفيان الثوري‏:‏ أنه سئل عن هذه الآية فقال‏:‏ هذا شيء منسوخ، ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام‏.‏ وأخرج النحاس في ناسخه، عن ابن عباس أن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن عمر‏:‏ ‏{‏والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل‏}‏ قال‏:‏ الشرك‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم‏}‏ قال‏:‏ كفار قريش‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس في قوله‏:‏ ‏{‏أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ الله‏}‏ قال‏:‏ هؤلاء خيار هذه الأمة جعلهم الله أهل رجاء، إنه من رجا طلب، ومن خاف هرب‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏219- 220‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏219‏)‏ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏220‏)‏‏}‏

السائلون في قوله‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر‏}‏ هم المؤمنون كما سيأتي بيانه عند ذكر سبب نزول الآية، والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة، وكل شيء غطى شيئاً، فقد خمره، ومنه‏:‏ «خمروا آنيتكم» وسمي خمراً، لأنه يخمر العقل، أي‏:‏ يغطيه ويستره، ومن ذلك الشجر الملتفّ يقال‏:‏ له الخمر بفتح الميم، لأنه يغطي ما تحته ويستره، يقال منه أخمرت الأرض‏:‏ كثر خمرها‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ألا يا زَيْدُ والضَّحَاك سِيرَا *** فَقَد جَاوَزْتُما خَمْر الطَّرِيقِ

أي‏:‏ جاوزتما الوهد‏.‏ وقيل‏:‏ إنما سميت الخمر خمراً؛ لأنها تركت حتى أدركت، كما يقال قد اختمر العجين‏:‏ أي‏:‏ بلغ إدراكه، وخمر الرأي‏:‏ أي‏:‏ ترك حتى تبين فيه الوجه، وقيل‏:‏ إنما سميت الخمر خمراً؛ لأنها تخالط العقل من المخامرة، وهي‏:‏ المخالطة‏.‏ وهذه المعاني الثلاثة متقاربة موجودة في الخمر؛ لأنها تركت حتى أدركت، ثم خالطت العقل، فخمرته‏:‏ أي‏:‏ سترته‏.‏ والخمر‏:‏ ماء العنب الذي غلا، واشتدّ، وقذف بالزَّبدَ، وما خامر العقل من غيره، فهو في حكمه كما ذهب إليه الجمهور‏.‏ وقال أبو حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وجماعة من فقهاء الكوفة‏:‏ ما أسكر كثيره من غير خمر العنب، فهو حلال‏:‏ أي‏:‏ ما دون المسكر فيه‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى حِل ما ذهب ثلثاه بالطبخ، والخلاف في ذلك مشهور‏.‏ وقد أطلت الكلام على الخمر في شرحي للمنتقى، فليرجع إليه‏.‏

والميسر مأخوذ من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، يقال يسر لي كذا‏:‏ إذا وجب، فهو ييسر يسراً، وميسراً، والياسر‏:‏ اللاعب بالقداح‏.‏ وقد يسر ييسر‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فَأعِنهُم وَأيْسرْ كما يَسَرُوا به *** وإذا هُمُ نَزلوُا بضَنْك فَانْزِلِ

وقال الأزهري‏:‏ الميسر‏:‏ الجَزُور التي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسراً؛ لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته، فقد يسرته، والياسر‏:‏ الجازر، قال‏:‏ وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح، والمتقامرين على الجزور‏:‏ ياسرون، لأنهم جازرون، إذ كانوا سبياً لذلك‏.‏ وقال في الصحاح‏:‏ ويسر القوم الجزور‏:‏ إذا اجتزروها، واقتسموا أعضاءها، ثم قال‏:‏ ويقال يسر القوم‏:‏ إذا قامروا، ورجل ميسر وياسر بمعنى، والجمع أيسار، قال النابغة‏:‏

إني أتمِّم أيسارِى وأمْنَحُهم *** مَثْنَى الأيادِي وأكْسوا الحفْنَة الأدَمَا

والمراد بالميسر في الآية‏:‏ قمار العرب بالأزلام، قال جماعة من السلف من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم‏:‏ كل شيء فيه قمار من نَرْدٍ، أو شطرنج، أو غيرهما، فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز، والكِعَاب إلا ما أبيح من الرهان في الخيل، والقرعة في إفراز الحقوق‏.‏ وقال مالك‏:‏ الميسر ميسران‏:‏ ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو‏:‏ النرد، والشطرنج، والملاهي كلها، وميسر القمار‏:‏ ما يتخاطر الناس عليه، وكل ما قومر به، فهو ميسر، وسيأتي البحث مطوّلاً في هذا في سورة المائدة عند قوله‏:‏

‏{‏إِنَّمَا الخمر والميسر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ‏}‏ يعني الخمر والميسر، فإثم الخمر أي‏:‏ إثم تعاطيها ينشأ من فساد عقل مستعملها، فيصدر عنه ما يصدر عن فاسد العقل من المخاصمة، والمشاتمة، وقول الفحش، والزور، وتعطيل الصلوات، وسائر ما يجب عليه، وأما إثم الميسر أي‏:‏ إثم تعاطيه، فما ينشأ عن ذلك من الفقر، وذهاب المال في غير طائل، والعدواة، وإيحاش الصدور‏.‏ وأما منافع الخمر فربح التجارة فيها، وقيل‏:‏ ما يصدر عنها من الطرب والنشاط وقوّة القلب، وثبات الجنان، وإصلاح المعدة، وقوّة الباءة، وقد أشار شعراء العرب إلى شيء من ذلك قال‏:‏

وَإذَا شَرِبْتُ فَإِنَّني *** رَبُّ الخَوَرْنَق والسَّدِير

وإذَا صَحُوْتُ فَإِنني *** رَبُّ الشَّوَيهةِ وَالبعير

وقال آخر‏:‏

ونشر بها فتتركنا ملوكاً *** وأسداً ما يهنهنا اللقاء

وقال من أشار إلى ما فيها من المفاسد، والمصالح‏:‏

رأيتُ الخمرَ صالحة وَفيها *** خِصَالُ تُفْسِدُ الرَّجُلُ الحَليما

فلا والله أشْرَبْها صحيحاً *** ولا أشفَى بها أبداً سقيماً

ولا أعْطى بها ثمناً حَيَاتي *** ولا أدعو لَها أبَداً نَدِيَماً

ومنافع الميسر‏:‏ مصير الشيء إلى الإنسان بغير تعب، ولا كدّ، وما يحصل من السرور، والأريحية عند أن يصير له منها سهم صالح‏.‏ وسهام الميسر أحد عشر، منها سبعة لها فروض على عدد ما فيها من الحظوظ‏:‏ الأول‏:‏ الفَذ بفتح الفاء بعدها معجمة، وفيه علامة واحدة، وله نصيب، وعليه نصيب‏.‏ الثاني‏:‏ التوأم بفتح المثناة الفوقية، وسكون الواو وفتح الهمزة، وفيه علامتان، وله وعليه نصيبان‏.‏ الثالث‏:‏ الرقيب، وفيه ثلاث علامات، وله وعليه ثلاثة أنصباء‏.‏ الرابع الحلس؛ بمهملتين، الأولى مكسورة، واللام ساكنة، وفيه أربع علامات، وله وعليه أربعة أنصباء، الخامس‏:‏ النافر بالنون، والفاء، والمهملة، ويقال‏:‏ النافس بالسين المهملة مكان الراء، وفيه خمس علامات، وله وعليه خمسة أنصباء‏.‏ السادس المُسْبَل بضم الميم، وسكون المهملة، وفتح الباء الموحدة، وفيه ست علامات، وله وعليه ستة أنصباء‏.‏ السابع المعلَّى بضم الميم، وفتح المهملة، وتشديد اللام المفتوحة، وفيه سبع علامات، وله وعليه سبعة أنصباء، وهو أكثر السهام حظاً، وأعلاها قدراً، فجملة ذلك ثمانية وعشرون فرداً‏.‏

والجزور تجعل ثمانية وعشرين جزءاً، هكذا قال الأصمعي، وبقي من السهام أربعة أغفالاً، لا فروض لها، وهي‏:‏ المنيح، بفتح الميم، وكسر النون وسكون الياء التحتية، وبعدها مهملة، والسفيح بفتح المهملة، وكسر الفاء، وسكون الياء التحتية بعدها مهملة، والوغد بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها مهملة، والضعف بالمعجمة بعدها مهملة ثم فاء، وإنما أدخلوا هذه الأربعة التي لا فروض لها بين ذوات الفروض لتكثر السهام على الذي يجيلها، ويضرب بها، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً‏.‏ وقد كان المجيل للسهام يلتحف بثوب، ويجِثوا على ركبتيه، ويخرج رأسه من الثوب، ثم يدخل يده في الربابة بكسر المهملة، وبعدها باء موحدة، وبعد الألف باء موحدة أيضاً، وهي الخريطة التي يجعل فيها السهام، فيخرج منها باسم كل رجل سهماً، فمن خرج له سهم له فرض أخذ فرضه، ومن خرج له سهم لا فرض له لم يأخذ شيئاً، وغرم قيمة الجزور، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء‏.‏

وقد قال ابن عطية‏:‏ إن الأصمعي أخطأ في قوله‏:‏ إن الجزور تقسم على ثمانية وعشرين جزءاً، وقال‏:‏ إنما تقسم على عشرة أجزاء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏ أخبر سبحانه بأن الخمر، والميسر، وإن كان فيهما نفع، فالإثم الذي يلحق متعاطيهما أكثر من هذا النفع؛ لأنه لا خير يساوي فساد العقل الحاصل بالخمر، فإنه ينشأ عنه من الشرور ما لا يأتي عليه الحصر، وكذلك لا خير في الميسر يساوي ما فيها من المخاطرة بالمال، والتعرض للفقر، واستجلاب العداوات المفضية إلى سفك الدماء، وهتك الحرم‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «كثير» بالمثلثة‏.‏ وقرأ الباقون بالباء الموحدة‏.‏ وقرأ أبيّ‏:‏ «وإثمهما أقرب من نفعها»‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏قُلِ العفو‏}‏ قرأه الجمهور بالنصب‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحده بالرفع‏.‏ واختلف فيه عن ابن كثير، وبالرفع قرأه الحسن، وقتادة قال النحاس‏:‏ إن جعلت ‏"‏ ذا ‏"‏ بمعنى الذي كان الاختيار الرفع على معنى‏:‏ الذي ينفقون هو‏:‏ العفو، وإن جعلت ‏"‏ ما ‏"‏ و‏"‏ ذا ‏"‏ شيئاً واحداً كان الاختيار النصب على معنى‏:‏ قل‏:‏ ينفقون العفو، والعفو‏:‏ ما سهل، وتيسر، ولم يشق على القلب، والمعنى‏:‏ أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تجهدوا فيه أنفسكم، وقيل‏:‏ هو ما فضل عن نفقة العيال‏.‏ وقال جمهور العلماء‏:‏ هو نفقات التطوّع، وقيل‏:‏ إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة المفروضة، وقيل‏:‏ هي محكمة، وفي المال حق سوى الزكاة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات‏}‏ أي‏:‏ في أمر النفقة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فِى الدنيا والأخرة‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ تتفكرون في أمرهما، فتحبسون من أموالكم ما تصلحون به معايش دنياكم، وتنفقون الباقي في الوجوه المقرّبة إلى الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير‏:‏ أي‏:‏ كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا، والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا، وزوالها، في الآخرة، وبقائها، فترغبون عن العاجلة إلى الآجلة‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن يكون إشارة إلى‏:‏ ‏{‏وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏ أي‏:‏ لتتفكروا في أمر الدنيا، والآخرة، وليس هذا بجيد‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن اليتامى‏}‏ هذه الآية نزلت بعد نزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏ وقد كان ضاق على الأولياء الأمر- كما سيأتي بيانه إن شاء الله- فنزلت هده الآية‏.‏ والمراد بالإصلاح هنا‏:‏ مخالطتهم على وجه الإصلاح لأموالهم، فإن ذلك أصلح من مجانبتهم وفي ذلك دليل على جواز التصرف في أموال الأيتام من الأولياء، والأوصياء بالبيع، والمضاربة والإجارة ونحو ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم‏}‏ اختلف في تفسير المخالطة لهم، فقال أبو عبيدة‏:‏ مخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال، ويشقّ على كافله أن يفرد طعامه عنه، ولا يجد بداً من خلطه بعياله، فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري، فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد تقع فيه الزيادة، والنقصان، فدلت هذه الآية على الرخصة، وهي‏:‏ ناسخة لما قبله‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالمخالطة‏:‏ المعاشرة للأيتام‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بها‏:‏ المصاهرة لهم، والأولى عدم قصر المخالطة على نوع خاص، بل تشمل كل مخالطة كما يستفاد من الجملة الشرطية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِخوَانُكُمْ‏}‏ خبر لمبتدأ محذوف أي‏:‏ فهم إخوانكم في الدين‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح‏}‏ تحذير للأولياء أي‏:‏ لا يخفى على الله من ذلك شيء، فهو يجازي كل أحد بعمله من أصلح، فلنفسه، ومن أفسد فعلى نفسه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لأعْنَتَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ولو شاء لجعل ذلك شاقاً عليكم، ومتعباً لكم، وأوقعكم فيما فيه الحرج، والمشقة‏.‏ وقيل العنت هنا‏:‏ معناه‏:‏ الهلاك‏.‏ قاله أبو عبيدة، وأصل العنت المشقة‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ أصل العنت التشديد، ثم نقل إلى معنى الهلاك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ أي‏:‏ لا يمتنع عليه شيء؛ لأنه غالب لا يُغَالَب ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ يتصرف في ملكه بما تقتضيه مشيئته، وحكمته، وليس لكم أن تختاروا لأنفسكم‏.‏

وقد أخرج أحمد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والضياء في المختارة، عن عمر أنه قال‏:‏ اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فإنها تذهب بالمال والعقل، فنزلت‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر‏}‏ يعني هذه الآية، فدعى عمر، فقرئت عليه فقال‏:‏ اللهمّ بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت التي في سورة النساء‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏ فكان منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة نادى‏:‏ «أن لا يقربن الصلاة» سكران، فدعى عمر، فقرئت عليه فقال‏:‏ اللهمّ بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر، فقرئت عليه، فلما بلغ‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏ قال عمر‏:‏ انتهينا انتهينا‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أنس قال‏:‏ كنا نشرب الخمر، فأنزلت‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر‏}‏ الآية، فقلنا‏:‏ نشرب منها ما ينفعنا، فنزلت في المائدة‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الخمر والميسر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏ الآية فقالوا‏:‏ اللهمّ انتهينا‏.‏ وأخرج أبو عبيد، والبخاري في الأدب المفرد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عمر؛ قال الميسر القمار‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، عن ابن عباس مثله قال‏:‏ كان الرجل في الجاهلية يخاطر عن أهله، وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله، وماله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ ما ينقص من الدين عند شربها‏:‏ ‏{‏ومنافع لِلنَّاسِ‏}‏ يقول‏:‏ فيما يصيبون من لذتها، وفرحها إذا شربوا‏:‏ ‏{‏وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏ يقول‏:‏ ما يذهب من الدين، فالإثم فيه أكبر مما يصيبون من لذتها، وفرحها إذا شربوها، فأنزل الله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏لا تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏ الآية، فكانوا لا يشربونها عند الصلاة، فإذا صلوا العشاء، شربوها، ثم إن ناساً من المسلمين شربوها فقاتل بعضهم بعضاً، وتكلموا بما لم يرض الله من القول، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏، فحرّم الخمر، ونهى عنها‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ منافعهما قبل التحريم، وإثمهما بعد ما حرّمهما‏.‏

وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم عنه؛ أن نفراً من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يسئلونك ماذا ينفقون قل العفو‏}‏ وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به، ولا ما يأكل حتى يُتصدّق عليه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ العفو هو‏:‏ ما لا يتبين في أموالكم، وكان هذا قبل أن تفرض الصدقة‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال‏:‏ ‏{‏العفو‏}‏ ما يفضل عن أهلك وفي لفظ قال‏:‏ الفضل عن العيال‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه في قوله‏:‏ ‏{‏قُلِ العفو‏}‏ قال‏:‏ لم تفرض فيه فريضة معلومة ثم قال‏:‏ ‏{‏خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ ثم نزلت في الفرائض بعد ذلك مسماة‏.‏ وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول» وثبت نحوه في الصحيح مرفوعاً من حديث حكيم بن حزام‏.‏ وفي الباب أحاديث كثيرة،

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِى الدنيا والأخرة‏}‏ قال‏:‏ يعني في زوال الدنيا، وفنائها، وإقبال الآخرة، وبقائها‏.‏ وأخرج أبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عنه قال‏:‏ لما أنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ ‏{‏وَأَنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏ الآية، انطلق من كان عنده يتيم يعزل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، فجعل يفصل له الشيء من طعامه، فيحبس له حتى يأكله، أو يفسد فيرمى به، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن اليتامى‏}‏ الآية‏.‏

فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم‏.‏ وقد روى نحو ذلك، عن جماعة من التابعين‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُخَالِطُوهُمْ‏}‏ قال‏:‏ المخالطة‏:‏ أن يشرب من لبنك، وتشرب من لبنه، ويأكل من قصعتك، وتأكل من قصعته، ويأكل من ثمرتك، وتأكل من ثمرته‏:‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح‏}‏ قال‏:‏ يعلم من يتعمد أكل مال اليتيم، ومن يتحرج منه، ولا يألو عن إصلاحه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لأعْنَتَكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ لو شاء ما أحلّ لكم ما أعنتكم مما لا تتعمدون‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏لأعْنَتَكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ لأحرجكم، وضيق عليكم، ولكنه وسع، ويسر‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لاعْنَتَكُمْ‏}‏ قال، ولو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏221‏]‏

‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏221‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنْكِحُواْ‏}‏ قرأه الجمهور بفتح التاء، وقرئ في الشواذ بضمها؛ قيل‏:‏ والمعنى‏:‏ كان المتزوج لها أنكحها من نفسها‏.‏ وفي هذه الآية النهي عن نكاح المشركات، فقيل‏:‏ المراد بالمشركات‏:‏ الوثنيات، وقيل‏:‏ إنها تعم الكتابيات؛ لأن أهل الكتاب مشركون، ‏{‏وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏، وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية، فقالت طائفة‏:‏ إن الله حرم نكاح المشركات فيها، والكتابيات من الجملة، ثم جاءت آية المائدة، فخصصت الكتابيات من هذا العموم‏.‏ وهذا محكي عن ابن عباس، ومالك، وسفيان بن سعيد، وعبد الرحمن بن عمر، والأوزاعي‏.‏ وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة، وأنه يحرم نكاح الكتابيات، والمشركات، وهذا أحد قولي الشافعي، وبه قال جماعة من أهل العلم‏.‏ ويجاب عن قولهم‏:‏ أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة بأن سورة البقرة من أوّل ما نزل، وسورة المائدة من آخر ما نزل‏.‏ والقول الأوّل هو الراجح‏.‏ وقد قال به مع من تقدم عثمان بن عفان، وطلحة، وجابر، وحذيفة، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، وطاوس، وعكرمة، والشعبي، والضحاك كما حكاه النحاس، والقرطبي‏.‏ وقد حكاه ابن المنذر عن المذكورين، وزاد عمر بن الخطاب وقال‏:‏ لا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرّم ذلك‏.‏ وقال بعض أهل العلم‏:‏ إن لفظ المشرك لا يتناول أهل الكتاب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ رَبُّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 105‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1‏]‏ وعلى فرض أن لفظ المشركين يعمّ، فهذا العموم مخصوص بآية المائدة كما قدمنا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلأمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ ولرقيقة مؤمنة، وقيل‏:‏ المراد بالأمة‏:‏ الحرة؛ لأن الناس كلهم عبيد الله، وإماؤه، والأول أولى لما سيأتي؛ لأنه الظاهر من اللفظ؛ ولأنه أبلغ، فإن تفضيل الأمة الرقيقة المؤمنة على الحرّة المشركة يستفاد منه تفضيل الحرّة المؤمنة على الحرّة المشركة بالأولى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ولو أعجبتكم المشركة من جهة كونها ذات جمال، أو مال، أو شرف، وهذه الجملة حالية‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين‏}‏ أي‏:‏ لا تزوجوهم بالمؤمنات ‏{‏حتى يُؤْمِنُواْ‏}‏ قال القرطبي‏:‏ وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه؛ لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام، وأجمع القراء على ضم التاء من تنكحوا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَعَبْدٌ‏}‏ الكلام فيه كالكلام في قوله‏:‏ ‏{‏وَلأمَةٌ‏}‏ والترجيح كالترجيح‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى المشركين، والمشركات ‏{‏يَدْعُونَ إِلَى النار‏}‏ أي‏:‏ إلى الأعمال الموجبة للنار، فكان في مصاهرتهم، ومعاشرتهم، ومصاحبتهم من الخطر العظيم ما لا يجوز للمؤمنين أن يتعرضوا له، ويدخلوا فيه ‏{‏والله يَدْعُو إلى الجنة‏}‏ أي‏:‏ إلى الأعمال الموجبة للجنة‏.‏

وقيل‏:‏ المراد‏:‏ أن أولياء الله هم‏:‏ المؤمنون يدعون إلى الجنة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ أي‏:‏ بأمره، قاله الزجاج، وقيل‏:‏ بتيسيره، وتوفيقه، قاله صاحب الكشاف‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، وابن المنذر، عن مقاتل بن حيان قال‏:‏ نزلت هذه الآية في أبي مَرْثد الغنوي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عَنَاقٍ أن يتزوجها، وكانت ذات حظ من جمال، وهي مشركة، وأبو مرثد يومئذ مسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله إنها تعجبني، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات‏}‏ قال‏:‏ استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب، فقال‏:‏ ‏{‏والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقد روى هذا المعنى عنه من طرق‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات‏}‏ يعني أهل الأوثان‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والبيهقي عن مجاهد نحوه، وكذلك أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن قتادة نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن النخعي نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، عن ابن عمر أنه كره نكاح نساء أهل الكتاب، وتأوّل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ‏}‏‏.‏ وأخرج البخاري عنه قال‏:‏ حرّم الله نكاح المشركات على المسلمين، ولا أعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، أو عبد من عباد الله‏.‏ وأخرج الواحدي، وابن عساكر من طريق السدّي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلأمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ ولو أعجبتكم‏}‏ قال نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداء، وأنه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له‏:‏ «ما هي يا عبد الله‏؟‏» قال‏:‏ تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال‏:‏ «يا عبد الله هذه مؤمنة،» فقال عبد الله‏:‏ فوالذي بعثك بالحق، لأعتقنها، ولأتزوجنها، ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين، وقالوا نكح أمَة، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين، وينكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنزل الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَلأمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ‏}‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن السدي مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل بن حيان في قوله‏:‏ ‏{‏وَلأمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ‏}‏ قال‏:‏ بلغنا أنها كانت أمة لحذيفة سوداء، فأعتقها وتزوجها حذيفة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي جعفر محمد بن عليّ قال‏:‏ النكاح بولى في كتاب الله، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏222- 223‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ‏(‏222‏)‏ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏223‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏المحيض‏}‏ هو‏:‏ الحيض، وهو مصدر، يقال‏:‏ حاضت المرأة حيضاً، ومحيضاً، فهي حائض، وحائضة، كذا قال الفراء، وأنشد‏:‏

كحائضة تُزْنَي بها غير طاهرة *** ونساء حُيَّض، وحوائض، والحِيضة بالكسر‏:‏ المرة الواحدة وقيل‏:‏ الاسم، وقيل‏:‏ المحيض عبارة عن الزمان، والمكان، وهو مجاز فيهما، وقال ابن جرير الطبري‏:‏ المحيض اسم الحيض، ومثله قول رؤبة‏:‏

إليك أشكو شدة المعيش *** أي العيش، وأصل هذه الكلمة من السيلان، والانفجار يقال‏:‏ حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة‏:‏ أي‏:‏ سالت رطوبتها، ومنه الحيض أي‏:‏ الحوض؛ لأن الماء يحوض إليه، أي‏:‏ يسيل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ أَذًى‏}‏ أي‏:‏ قل هو شيء يتأذى به أي‏:‏ برائحته‏.‏ والأذى كناية عن القذر، ويطلق على القول المكروه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والاذى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَدَعْ أَذَاهُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 48‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاعتزلوا النساء فِي المحيض‏}‏ أي‏:‏ فاجتنبوهنّ في زمان المحيض إن حمل المحيض على المصدر، أو في محل الحيض إن حمل على الاسم‏.‏ والمراد من هذا الاعتزال‏:‏ ترك المجامعة لا ترك المجالسة، أو الملامسة، فإن ذلك جائز، بل يجوز الاستمتاع منها بما عدا الفرج، أو بما دون الإزار على خلاف في ذلك، وأما ما يروى عن ابن عباس، وعبيدة السلماني أنه يجب على الرجل أن يعتزل فراش زوجته إذا حاضت، فليس ذلك بشيء، ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم وطء الحائض، وهو معلوم من ضرورة الدين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ولاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ‏}‏ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص عنه بسكون الطاء، وضم الهاء‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر‏:‏ «يطَّهرن» بتشديد الطاء، وفتحها، وفتح الهاء، وتشديدها‏.‏ وفي مصحف أبيّ، وابن مسعود‏:‏ «ويتطهرن» والطهر انقطاع الحيض، والتطهر‏:‏ الاغتسال‏.‏ وبسبب اختلاف القراء اختلف أهل العلم، فذهب الجمهور إلى أن الحائض لا يحل وطؤها لزوجها، حتى تتطهر بالماء‏.‏ وقال محمد بن كعب القرظي، ويحيى بن بكير‏:‏ إذا طهرت الحائض، وتيمّمت حيث لا ماء حلت لزوجها، وإن لم تغتسل‏.‏ وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ إن انقطاع الدم يحلها لزوجها، ولكن تتوضأ‏.‏ وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد‏:‏ إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشر لم يجز حتى تغتسل، أو يدخل عليها، وقت الصلاة‏.‏ وقد رجح ابن جرير الطبري قراءة التشديد، والأولى أن يقال‏:‏ إن الله سبحانه جعل للحلّ غايتين كما تقتضيه القراءتان‏:‏ إحداهما‏:‏ انقطاع الدم، والأخرى‏:‏ التطهر منه، والغاية الأخرى مشتملة على زيادة على الغاية الأولى، فيجب المصير إليها‏.‏ وقد دلّ أن الغاية الأخرى هي المعتبرة‏.‏ قوله تعالى بعد ذلك‏:‏ ‏{‏فَإِذَا تَطَهَّرْنَ‏}‏ فإن ذلك يفيد أن المعتبر التطهر، لا مجرد انقطاع الدم‏.‏

وقد تقرر أن القراءتين بمنزلة الآيتين، فكما أنه يجب الجمع بين الآيتين المشتملة إحداهما على زيادة بالعمل بتلك الزيادة، كذلك يجب الجمع بين القراءتين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله‏}‏ أي‏:‏ فجامعوهنّ، وكني عنه بالإتيان، والمراد‏:‏ أنهم يجامعونهنّ في المأتي الذي أباحه الله، وهو‏:‏ القُبُل قيل‏:‏ و‏{‏مّنْ حَيْثُ‏}‏ بمعنى‏:‏ في حيث، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏ أي‏:‏ في يوم الجمعة، وقوله‏:‏ ‏{‏مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 4‏]‏ أي‏:‏ في الأرض، وقيل‏:‏ إن المعنى من الوجه الذي أذن الله لكم فيه‏:‏ أي‏:‏ من غير صوم، وإحرام، واعتكاف، وقيل إن المعنى من قبل الطهر، لا من قبل الحيض، وقيل‏:‏ من قبل الحلال، لا من قبل الزنا‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين‏}‏ قيل‏:‏ المراد‏:‏ التوابون من الذنوب، والمتطهرون من الجنابة، والأحداث‏.‏ وقيل التوابون من إتيان النساء في أدبارهنّ‏.‏ وقيل‏:‏ من إتيانهن في الحيض، والأول أظهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ‏}‏ لفظ الحرث يفيد أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج الذي هو القبل خاصة؛ إذ هو مزدرع الذرية، كما أن الحرث مزدرع النبات‏.‏ فقد شبه ما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بما يلقى في الأرض من البذور التي منها النبات بجامع أن كل واحد منهما مادة لما يحصل منه، وهذه الجملة بيان للجملة الأولى، أعني قوله‏:‏ ‏{‏فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أنى شِئْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ من أي جهة شئتم من خلف، وقدام، وباركة، ومستلقية، ومضطجعة، إذا كان في موضع الحرث، وأنشد ثعلب‏:‏

إنما الأرحام أرضو *** ن لنا محترثات

فعلينا الزرع فيها *** وعلى الله النبات

وإنما عبر سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنّى‏}‏ لكونها أعم في اللغة من كيف، وأين، ومتى‏.‏ وأما سيبويه، ففسرها ها هنا ب ‏"‏ كيف ‏"‏، وقد ذهب الخلف والسلف، من الصحابة، والتابعين، والأئمة إلى ما ذكرناه من تفسير الآية، وأن إتيان الزوجة في دبرها حرام، وروي عن سعيد بن المسيب، ونافع، وابن عمر، ومحمد بن كعب القرظي، وعبد الملك بن الماجشون أنه يجوز ذلك، حكاه عنهم القرطبي في تفسير قال‏:‏ وحكى ذلك عن مالك في كتاب له يسمى‏:‏ «كتاب السر» وحذاق أصحاب مالك، ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجلّ من أن يكون له كتاب سرّ، ووقع هذا القول في العُتْبِيَّة‏.‏ وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز ذلك إلى زمرة كبيرة من الصحابة، والتابعين، وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب‏:‏ «جماع النسوان وأحكام القرآن» وقال الطحاوي‏:‏ روى أصبغ بن الفرج، عن عبد الرحمن بن القاسم، قال‏:‏ ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني شك في أنه حلال، يعني وطء المرأة في دبرها ثم قرأ‏:‏ ‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ‏}‏ ثم قال‏:‏ فأي شيء أبين من هذا‏.‏

وقد روى الحاكم، والدارقطني، والخطيب البغدادي، عن مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك‏.‏ وفي أسانيدها ضعف‏.‏ وقد روى الطحاوي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنه سمع الشافعي يقول‏:‏ ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله، ولا تحريمه شيء، والقياس أنه حلال‏.‏ وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب‏.‏ قال ابن الصباغ‏:‏ كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا الله هو لقد كذب ابن عبد الحكم على الشافعي في ذلك، فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ خيراً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تُقَدّمُواْ لأنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ * تَجِدُواْ * عَندَ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 110‏]‏ وقيل‏:‏ ابتغاء الولد‏.‏ وقيل‏:‏ التزويج بالعفائف‏.‏ وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فيه تحذير عن الوقوع في شيء من المحرّمات‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّكُم ملاقوه‏}‏ مبالغة في التحذير‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين‏}‏ تأنيس لمن يفعل الخير ويجتنب الشر‏.‏

وقد أخرج مسلم، وأهل السنن، وغيرهم، عن أنس‏:‏ «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت، ولم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض‏}‏ الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ جامعوهنّ في البيوت، واصنعوا كل شيء إلا النكاح ‏"‏ وأخرج النسائي، والبزار، عن جابر قال‏:‏ إن اليهود قالوا‏:‏ من أتى المرأة في دبرها كان ولده أحول فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه عن ذلك، وعن إتيان الحائض، فنزلت‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن مجاهد قال‏:‏ الأذي‏:‏ الدم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فاعتزلوا النساء‏}‏ يقول‏:‏ اعتزلوا نكاح فروجهن‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ‏}‏ قال‏:‏ من الدم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد قال‏:‏ حتى ينقطع الدم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا تَطَهَّرْنَ‏}‏ قال‏:‏ بالماء‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن عكرمة نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد، وعطاء‏:‏ أنهما قالا‏:‏ إذا رأت الطهر، فلا بأس أن تستطيب بالماء، ويأتيها قبل أن تغتسل‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله‏}‏ قال‏:‏ يعني‏:‏ أن يأتيها طاهراً غير حائض‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله‏}‏ قال من حيث أمركم أن تعتزلوهنّ‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن عكرمة مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي، عن ابن عباس؛ قال‏:‏ من حيث نهاكم أن تأتوهنّ وهنّ حَيض‏:‏ يعني‏:‏ من قبل الفرج‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن الحنفية قال‏:‏ ‏{‏فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله‏}‏ من قبل التزويج‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن عطاء في قوله‏:‏ ‏{‏يُحِبُّ التوبين‏}‏ قال‏:‏ من الذنوب ‏{‏وَيُحِبُّ المتطهرين‏}‏ قال‏:‏ بالماء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الأعمش قال‏:‏ التوبة من الذنوب، والتطهير من الشرك‏.‏

وأخرج البخاري، وأهل السنن، وغيرهم عن جابر؛ قال‏:‏ كانت اليهود تقول‏:‏ إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها جاء الولد أحول، فنزلت‏:‏ ‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ‏}‏ إن شاء محتبية، وإن شاء غير محتبية، غير أن ذلك في صمام واحد‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن مُرَّة الهمداني نحوه‏.‏ وقد روى هذا، عن جماعة من السلف، وصرحوا أنه السبب، ومن الراوين لذلك‏:‏ عبد الله بن عمر، عند ابن عساكر، وأم سلمة، عند عبد الرزاق، وعبد بن حميد، والبيهقي في الشعب‏.‏ وأخرجه أيضاً، عنها ابن أبي شيبة، وأحمد، والدارمي، وعبد بن حميد، والترمذي، وحسنه‏:‏ «أنها سألت رسول الله بعض نساء الأنصار عن التحبية، فتلا عليها الآية، وقال‏:‏ ‏"‏ صماماً واحداً ‏"‏ والصمام‏:‏ السبيل، وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، والنسائي، والضياء في المختارة، وغيرهم، عن ابن عباس قال‏:‏ جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله هلكت قال‏:‏ ‏"‏ وما أهلكك‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ حوّلت رحلي الليلة‏.‏ فلم يردّ عليه شيئاً، فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية‏:‏ ‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ أقبل، وأدبر، واتق الدُّبُرَ، والحيضة‏.‏ وأخرج أحمد، عن ابن عباس مرفوعاً‏:‏ أن هذه الآية نزلت في أناس من الأنصار أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه فقال‏:‏ ‏"‏ ائتها على كل حال إذا كان في الفرج ‏"‏‏.‏ وأخرج الدارمي، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عنه قال‏:‏ إن ابن عمر- والله يغفر له- أوهم، إنما كان هذا الحي من الأنصار، وهم أهل وثن، مع هذا الحيّ من اليهود، وهم أهل الكتاب كانوا يرون لهم، فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، فكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، وكان هذا الحيّ من الأنصار قد أخذوا بفعلهم، وكان هذا الحيّ من قريش يشرحون النساء شرحاً، ويتلذذون منهن مقبلات، ومدبرات، ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار‏.‏

فذهب يفعل بها ذلك، فأنكرته عليه، وقالت‏:‏ إنما كنا نؤتى على حرف، فاصنع ذلك، وإلا فاجتنبني، فسرى أمرهما، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله الآية‏:‏ ‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ‏}‏ يقول مقبلات، ومدبرات بعد أن يكون في الفرج، وإن كان من قبل دبرها في قبلها، زاد الطبراني‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ قال ابن عمر‏:‏ في دبرها، فأوهم، والله يغفر له، وإنما كان هذا الحديث على هذا‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والدارمي، والبيهقي، عن ابن مسعود؛ أنه قال‏:‏ محاشُّ النساء عليكم حرام‏.‏

وأخرج الشافعي في الأم، وابن أبي شيبة، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه، وابن المنذر، والبيهقي في سننه من طريق خزيمة بن ثابت؛ «أن سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهنّ، فقال‏:‏ حلال، أو لا بأس، فلما ولى دعاه فقال‏:‏ ‏"‏ كيف قلت‏؟‏ أمن دبرها في قبلها، فنعم، أم من دبرها في دبرها فلا، إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهنّ ‏"‏ وأخرج ابن عدي، والدارقطني، عن جابر بن عبد الله نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن حبان عن ابن عباس؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأة في الدبر ‏"‏ وأخرج أحمد، والبيهقي في سننه، عن ابن عمرو؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ الذي يأتي امرأته في دبرها هي‏:‏ اللوطية الصغرى ‏"‏ وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ملعون من أتى امرأته في دبرها ‏"‏‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والنسائي، والبيهقي عنه قال‏:‏ إتيان الرجال، والنساء في أدبارهن كفر‏.‏ وقد رواه ابن عدي، عن أبي هريرة مرفوعاً‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ والموقوف أصح‏.‏

وقد ورد النهي عن ذلك من طرق منها‏:‏ عند البزار عن عمر مرفوعاً، وعند النسائي عنه موقوفاً، وهو أصح‏.‏ وعند ابن عدي في الكامل، عن ابن مسعود مرفوعاً، وعند ابن عدي أيضاً، عن عقبة بن عامر مرفوعاً، وعند أحمد عن طلق بن يزيد، أو يزيد بن طلق مرفوعاً، وعند ابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي وحسنه، عن علي بن طلق مرفوعاً، وقد ثبت نحو ذلك عن جماعة من الصحابة، والتابعين مرفوعاً، وموقوفاً، وأخرج البخاري، وغيره عن نافع قال‏:‏ قرأت ذات يوم‏:‏ ‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ‏}‏ فقال ابن عمر‏:‏ أتدري فيم أنزلت هذه الآية‏؟‏ قلت‏:‏ لا، قال نزلت في إتيان النساء في أدبارهنّ‏.‏

وأخرج البخاري عن ابن عمر أنه قال‏:‏ ‏{‏فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ‏}‏ قال‏:‏ في الدبر‏.‏ وقد روى هذا عن ابن عمر من طرق كثيرة، وفي رواية عند الدارقطني أنه قال له نافع‏:‏ من دبرها في قبلها‏؟‏ فقال لا‏:‏ إلا في دبرها‏.‏ وأخرج ابن راهويه، وأبو يعلى، وابن جرير، والطحاوي، وابن مردويه بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري، أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس عليه ذلك، فنزلت الآية‏.‏ وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن علي قال‏:‏ كنْتُ عند محمد بن كعب القرظي، فجاءه رجل، فقال‏:‏ ما تقول في إتيان المرأة في دبرها‏؟‏ فقال‏:‏ هذا شيخ من قريش، فسله، يعني عبد الله بن علي بن السائب، فقال‏:‏ قذر، ولو كان حلالاً‏.‏ وقد روي القول بحلّ ذلك، عن محمد بن المنكدر، عند ابن جرير، وعن ابن أبي مليكة، عند ابن جرير أيضاً، وعن مالك بن أنس عند ابن جرير، والخطيب، وغيرهما، وعن الشافعي عند الطحاوي، والحاكم والخطيب‏.‏ وقد قدّمنا مثل هذا‏.‏ وليس في أقوال هؤلاء حجة البتة‏:‏ ولا يجوز لأحد أن يعمل على أقوالهم، فإنهم لم يأتوا بدليل يدلّ على الجواز، فمن زعم منهم أنه فهم ذلك من الآية، فقد أخطأ في فهمه‏.‏ وقد فسرها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكابر أصحابه بخلاف ما قاله هذا المخطئ في فهمه كائناً من كان، ومن زعم منهم أن سبب نزول الآية أن رجلاً أتى امرأته في دبرها، فليس في هذا ما يدل على أن الآية أحلت ذلك، ومن زعم ذلك، فقد أخطأ، بل الذي تدل عليه الآية أن ذلك حرام، فكون ذلك هو السبب لا يستلزم أن تكون الآية نازلة في تحليله، فإن الآيات النازلة على أسباب تأتي تارة بتحليل هذا، وتارة بتحريمه‏.‏ وقد روي عن ابن عباس‏:‏ أنه فسّر هذه الآية بغير ما تقدّم، فقال‏:‏ معناها‏:‏ إن شئتم، فاعزلوا، وإن شئتم، فلا تعزلوا، روى ذلك عنه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والضياء في المختارة‏.‏ وروى نحو ذلك عن ابن عمر‏.‏ أخرجه ابن أبي شيبة، وعن سعيد بن المسيب، أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير‏.‏